ليس كمثله شيءٌ

لا يصبح المرء مؤمنا بين ليلة وضحاها. إذ يخيل للمرء انه مؤمن، ثم يحدث شيء في حياته فيصبح ملحدا. ثم يعود ويؤمن ثانية، ثم يصبح متشككا وهكذا دواليك، حتى يبلغ مرحلة معينة. إننا نتردد باستمرار. هذه هي الطريقة الوحيدة التي تجعلنا نمضي إلى الأمام. ومع كل خطوة جديدة، نزداد قربا من الحقيقة“. جلال الدين الرومي من قواعد العشق الأربعون. 

أتذكر نفسي في عام 2014 إذ كنتُ جالسة على مكتبي وعلامات الغرور مرسومة على وجهي. كان رأسي ممتلئ بالمعلومات التي جمعتها من كل صوب عن حقيقة الأديان وأخر نظريات المعمل. وكان قلبي حاقداً على كل من حاول أن يقمع أفكاري، ويسكت لساني، ويجردني من الفضول الذي أخذ يشتعل بداخلي حتى كاد  يحرق حياتي بأكملها. حقدتُ على رجال الدين والمتدينين، وعلى العنصرية الدينية والطائفية. اعتقدت أني وصلتُ للحقيقة المطلقة . الله ليس بموجود. لا يوجد خالق للكون، بل نحن أبناء الصدفة. صدفة كمية أحدثت الانفجار العظيم، وأخرجت جد جدي للحياة. من السهل أن تصل إلى تلك الخلاصة بعد جرعات كبيرة من الألم. نرى الآلام في حياتنا ومن حولنا وعلى شاشات التلفاز، فنتساءل كيف لله أن يكون موجوداً ويرى الظلم والظلام ولا يفعل أي شيء ليغير الحال؟ هل الخالق سادي أم هو شرير؟ الأفضل أن نعتقد بأنه غير موجود ولا يوجد غيرنا هنا. قد نؤمن بوجود الكائنات الفضائية أو حتى مخلوقات غريبة تعيش في باطن الأرض، لكننا  لا نريد أن نسمع أي شيء عن أي كيان غير مرئي لا يقع داخل حدود عالمنا الثلاثي الأبعاد. نرفض فكرة العقل المدبر والروح العظيمة التي أخرجتنا جميعنا  إلى الوجود. أي حديث عن أي شيء أكبر مننا سيأخذنا لنفس السؤال الذي لم نصل لإجابته بعد.. هل هناك خالق؟؟

أذكر مقولة سمعتها يوماً تقول ( إن كان للمرء وعياً بحجم كرة الغولف، فلو قرأ كتاباً فسيفهمه بنفس الحجم، وإن كان للمرء وعياً بحجم ملعب كرة القدم، فسيفهم الكتاب بنفس الحجم، فما بالك لو كان للمرء وعياً بحجم الكون بأكمله). 

أما أنا فكنتُ أمتلك وعياً بحجم كرة القدم وأنا أكتب ما ستقرأه أدناه

 أتوجه في مقالي هذا لمجتهدي إثبات وجود الخالق من المؤمنين. على أمل أن يزودنني بمعلوماتهم وآرائهم حول الموضوع المناقش.

 وسط الجدال الغير منتهى والعقيم في أغلب الأحيان بين المؤمن والملحد،  يلجأ المؤمن عادةً إلى الحيلة الأخيرة بعد أن تضيق به السبل، ونأتيه بالأدلة القوية على بشرية القرآن، وبعد أن يقف مدهوشاً مما أوضحناه مكتوف الأيدي، دائماً ما يلجأ إلى ما يعتبره بالبطاقة الرابحة، وهو السؤال الأهم والأكثر غموضاً (من خلق الكون؟).

 غالبا ما نكون متفقين بديهياً على نظرية الانفجار العظيم، لأن الجدل مع من لا يؤمن بهذه النظرية، يعد لهو ومضيعة للوقت والجهد، فنصبح متفقين على صحة النظرية، ومختلفين على سبب حدوثها. هنا يُظهر المؤمن بطاقته الرابحة وهي (السبب المسبب), و يوجه إلينا السؤال الأكبر الذي لا يزال يحير الجميع. إذ تراه يتساءل في غطرسة (أتفق معك على نظرية الانفجار العظيم، لكن هل لك أن تخبرني ما الذي تسبب في حدوث هذا الانفجار، أو بمعنى أصح أكيد أن هناك من أحدثه وهو الخالق الذي أؤمن به، فلتثبت العكس)

معضلة كبرى، لكن المؤمن يقع في خطأ فادح لمجرد إيمانه بهذه النظرية، حيث أن مضمون هذه النظرية ينص على أنه قبل الانفجار لم يكن هناك شيء غير العدم، و بعدها حدث شيء أدى إلى الانفجار. هنا سيهلل المؤمن ظناً،  بأنه انتصر حين تَذكر (العدم)، حيث سيستدل على قول القرآن، بأن الله خلق كل شيء من عدم، وهنا يكمن الخطأ.

 ما معنى العدم؟ العدم هو اللاشيء، اللامكان واللازمان, كيف يكون هناك خالق وليس هناك مكان ليتواجد فيه وكيف خلق الكون ولم يكن هناك زمان ليخلق فيه؟

.سيجيب المؤمن؛ بإن الله ليس كمثله شيءٌ وهو فوق الزمان والمكان.

إن افتراضنا بإن الله فوق الزمان والمكان، وبأنه يتواجد في عالم  آخر غير هذا الكون حيث استطاع أن يخلقنا منه، فكيف قال( خلق كل شيء)؟ إنه عمم و شمل و قال كل شيء، فلقد خلق ملكوته والملائكة والشياطين والأبعاد الأخرى… إلخ. كل شيء و قبل ذلك لم يكن هناك إلا العدم، و إن صح هذا، فسؤالي هو ؛ من أين أتى بالزمن لكى يخلق حتى الجزيء الصغير إذ كان في حالة اللازمان؟ وكيف كان إذ لم يكن زمان وهو القائل في حديثٍ قدسي (يؤذيني ابن ادم يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار) رواه البخاري؟؟؟ 

و هذه من إحدى الدلائل على بطلان تلك الحجة، حيث لم تعد نظرية السبب المسبب صالحة، وتحل محلها فيزياء الكم لتفسر ما عجز أسلافنا عن تفسيره.

 هناك افتراض آخر قد لا يزال عالق بذهن المؤمن وهو إن كان الله متواجد فى هذه الحالة من العدم – مع استحالة وجوده لأنه غير منطقي أن يتواجد أي شيئ كان في اللاشيء – لكن المؤمن الذي يصدق القدرات العجيبة لهذا الإله الوهمي، قد يصرخ قائلا ( لااااا وما يدريك لعل الله كان موجود) 

 هنا سنجيبه إن كان الله متواجد في اللامكان واللازمان، فهو إذاً ليس بذلك الله الذي تعرفه أنت أو تؤمن به. كيف له ذلك منطقيا؟ فلو افترضنا أنه صغير الحجم جدا كجزيء ظهر هو الآخر من اللاشيء، كما نرى فى معامل فيزياء الكم، حيث تظهر جزيئات من اللاشيء وتختفى كذلك دون سبب. قد يكون هو هذا الجزيء بوزن هيجز الملقب بجزيء الإله. هنا قد أتفق معك وأؤمن بهذا الإله على كونه جزئ خالق وتنتهى كل خلافاتنا… 

لم يكتمل المقال على النحو الذي أردته، فلقد علمتُ أنه في استطاعتي الحصول على المزيد من المعلومات، عن قصص الله وعلوم الفلسفة وجنون عالم الكم الصغير. لذلك أخذتُ أبحث هنا وهناك حتى ارضي غروري،  وأتسلح بالمزيد من الحجج التي تخدم أفكاري، لكن المقال بقي عالقاً سبع سنوات، ولم يكتمل. زرتُ فيها مدارس عدة وطرقت أبواباً مختلفة، بحثاً عن الحلقة المفقودة، التي لن يكتمل مقالي إلا بها، ولن يرتاح بالي ويهنأ نومي إلى بمعرفة سرها وحقيقة الوجود. وكما قال الشاعر (أمر على الأبواب من غير حاجة لعلي أراكم أو أرى من يراكم)

أتَعلمُ ماذا قد يفعل الفضول في أصحابه؟ إن لم يكن قد حذرك احدهم من قبل من فرط العلم وجنون الفضول، فهأنا أفعل.  فلقد استرقتُ النظر وكادت أن تحرقني شمس الحقيقة، لكن كما قالت رابعة العدوية (فلا حمد في ذا ولا ذاك لي ، ولكن لك الحمد في ذا وذاكا).   

بعد سبع سنوات من التجارب والاختبارات التي أجرتها الحياة قسراً علي جسدي وعقلي وروحي، عدتُ لأقرأ ما كتبتُ سابقاً عن الخالق والعدم وأحجية الوجود، فضحكتُ من نفسي، لأني الآن أحاول أن أشرح لمن يؤمن بما كنتُ أكتبه أن كل ما عرفناه عن العدم والخالق والروح وحقيقة وجودنا، يضاهي حجم كرة القدم التي تسبح بلا هدف في فضاء الكون العظيم.

الآن فهمتُ أن العدم هو أساس الخلق وهو لغة الخالق وأن العدم الذي نظنه لاشيء يحمل في طياته حرفياً كل شيء. فهمتُ أن الخالق موجوداً فوقي وتحتي وعلى يميني ويساري وبداخلي وحولي وفي كل مكان . أدركتُ أخيرا ما قصده الحلاج بقصيدته الشهيرة التي قال فيها ( رأيتُ ربي بعين قلبي، فقلتُ من أنتَ، فقال: أنتَ. لا للأين منك أينٌ ولا أينٌ بحيثُ أنت .. أنت الذي حزتَ كل أين بحيثُ لا أين، فأين أنتَ؟؟)

 تساءلتُ قبل سبع سنوات كيف يمكن للخالق أن يتواجد في حالة اللاشيء لكي يخلقنا من عدم، ولا يمكن لأي شيء أن يتواجد في اللاشيء. والآن أجيبُ نفسي بعد العديد من التجارب وسنوات من البحث، بأن الخالق هو ذاك الشيء واللاشيء في ذات الوقت. لن يستوعب الجميع ما أقول. ولمَ العجب؟ فهل استوعب أحدنا الأرقام الكونية الضخمة وغيرها من عجائب الوجود والتي تذكرنا بحجمنا الصغير وقلة حيلتنا كلما حاولنا كشف أسرارها. فلا تكره ما تسمعه مني لمجرد أنك لم تفهمه، وتذكر أنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ولم تؤتى من العلم إلا قليل. 

هو الحقيقة الواحدة. تلك الروح التي نتشاركها جميعنا، بدءاً من حبة الرمل إلى المجرة العظيمة. فإن كان للخالق جسد فالكون كله وما فيه ما هو إلا أجزاء من جسده العظيم، وما نحن إلا خلايا صغيرة تعيش عبر نوره، لكن اغلبنا لا يعي بأننا روح واحدة في الأصل. ننسي حقيقتنا ونتوه في الوهم . الوهم أو حياة الدنيا. نعم، الخالق هو الحق والدنيا هي الوهم، لكن ألا تعلم أن الخالق هو الدنيا كذلك. هو الحقيقة والوهم في ذات الوقت. لا تندهش من كلماتي، ففي الخلق الكثير من   العجب. أتذكر كيف تكتب كلمة الرب في الانجليزية، حيث يمثل الحرف الأول منها أول حروف كلمة الخالق، بينما الحرف الثاني لكلمة المدبر، أما الحرف الثالث فيمثل كلمة المدمر. هكذا أدركوا الخالق في الغرب، بينما أضاف الشرق القديم عاملين على العوامل الثلاثة المعروفة، فأصبح الخالق، المدبر، المدمر، الحالم، المتيقظ. ظهر الوجود لأن الخالق أراد أن يكون ويتجلى في أشكاله وألوانه وطباعه المختلفة، وتبقى حقيقة سكونه كجبل ثابت لا يتأثر بتلاطم الأمواج. ثابتٌ كالجبل وفي رقصته تكون الحياة عبرنا ومن حولنا.

أنظر إلى الأنماط والأرقام من حولك إنه التصميم الشامل في كماله ونقصانه، وفي نظامه الدقيق وفوضته العارمة، في عقلانيته وعبثيته. لم يخرج شيء إلى وجودنا المادي إلا وكان له نقيض، لأن الوجود يتجلى عبر الازدواجية. فلا يوجد نهار دون ليل،  ولا خير دون شر ، ولا حياة دون موت.  

سافرت عبر القارات وتعلمتُ اللغات وطرقت الأبواب بحثاً عنه ولم أكن  أعلم أن مملكته العظيمة تقع في داخل قلبي.    فلا ملجأ منه إلى إليه ولا طريق لمملكته إلا طريق القلب. وأنا من كنتُ أبحث عنه هنا وهناك بينما هو أقرب إلي من حبل الوريد. سبحانه شمل علمه كل شيء ولا نعلم عنه إلا قليل القليل. ووسع وجوده السموات والأرض.  

إنه هنا يكتب تلك الكلمات، وهناك في زمن أخر يقرأها ويوافق على ما قيل فيها أو يرفضه. إنه هناك يشتعل فوقنا كشمس ويدور حولنا كقمر. هو حبات الرمل وقطرات المطر. هو مجرة عظيمة متلألئة وثقب أسودٌ يهلك كل من أقترب من ظلامه. هو القاتل والمقتول. هو الله والمسيح وبوذا وشيفا وكريشينا ورام وكل من سمعت. هو هنا وهناك وفي كل مكان. هو الصمت والصراخ، النور والظلام، النظام والفوضى .هو كل شيء ولاشيء في ذات الوقت. رقمه 0 و9 حيث تمثل 9 . جميع الأرقام ويمثل 0 العدم..

هو وراء المكان والزمان، وراء البعد الثالث. بل هو اللابعد واللامكان واللازمان، اللاشكل واللأسم، و هو كذلك كل الأبعاد والأشكال والألوان التي عرفناها والتي لم نتعرف عليها بعد . الصمت لغته والعدم حالته  وفي باطنه يكون رحم الوجود . هو ذاك الذي ليس كمثله شيئٌ.